الدين
المعاملة
الحمد
لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أكمل الدين، وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من
بلغ عن ربه، وأفضل رسله وخلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه،
وتمسك بسنته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما
بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي المقصرة بتقوى الله، فإنه من اتقاه وقاه وكفاه.
أيها
المؤمنون:
إن
الله تعالى قد نسخ بالإسلام ما قبله من الشرائع، وختم بنبينا محمد r من
قبله من الأنبياء والرسل، وأنزل القرآن مهيمناً على الكتب كلها، ضمنه وحيه وشرعه
وهداه، قال الله تعالى:)الْيَوْمَ ألَْكْمَتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً([المائدة :3].
يمن الله على عباده بإكمال الدين لهم
وإتمامه، فهي نعمة تفوق نعمة المأكل والمشرب، فقد كان يمر على أبيات رسول
الله r
الهلال والهلالان والثلاثة لا يوقد في بيته نار، وكان أغلب طعامه الأسودان ـ التمر
والماء ـ ونعمة كمال الدين أعظم من نعمة الملبس، فقد كان بعض الصحابة لا يملك إلا
إزاراً يستر به عورته.
ومن كمال هذا الدين وجماله وعمومه
وشموله، ومما يبعث على الفخر والاعتزاز بالانتماء إليه، ما أوضحه من علاقة المسلم
بغيره ابتداءً بخالقه ومولاه، ومروراً بالخلق من حوله: من الوالدين، والأولاد،
والزوجة، وذوى الأرحام، والجيران، والأصدقاء، والمخالفين، وانتهاءً بالعجماوات من
البهائم والحيوانات، والبيئة، والنظافة، وغيرها.
فقد نظم ديننا الحنيف هذه العلاقة،
فأمر المسلم بالقصد في العبادة، فلا غلو ولاجفاء، ولا إفراط ولا تفريط، فالمسلم
وسط في عبادته لربه – سبحانه وتعالى – وقد ظهر ذلك واضحاً جلياً في قول النبي r:
"إذا نعس أحدكم وهو يصلى، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو
ناعس، لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" [متفق عليه]، قال أنس t:
دخل النبي r،
فإذا حبل بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل ؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت -
أي كسلت - تعلقت به، فقال النبي r:
"حُلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقـد" [متفق عليه]. وقال سلمان
الفارسي t
مخاطباً أبا الدرداء t: "إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك
حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه" فأتى النبي r
فذكر ذلك له، فقال النبي r:
"صدق سلمان" [أخرجه البخاري].
إخوة
الإيمان:
لم
تكتف الشريعة ببيان العلاقة والمعاملة بين المخلوق وخالقه، بل أوضحت ما ينبغي أن
يكون بينه وبين الخلق من حوله، فأمرت بالإحسان إلى الوالدين، قال تعالى:)
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً([النساء:36]. وسئل رسول الله r :
"أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: "الصلاة لوقتها"، قيل: ثم أي ؟
قال: "بر الوالدين" قيل ثم أي ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"
[متفق عليه].
وكذلك أمر ديننا الحنيف بالإحسان إلى
الأولاد، فأمر بتربيتهم وحسن رعايتهم، وحذر من إضاعتهم، وفي الحديث "كفى
بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" [أخرجه أبو داود]. ودعا إلى تأديبهم وتعليمهم
كما في قوله r: "مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع
سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع" [أخرجه
أبو داود]، وحث على الحنو عليهم واللطف بهم حال تأديبهم، وأمر بالرحمة بهم.
عباد الله: بعد ما جاء في شأن معاملة
الوالدين والأولاد، لم يغفل ديننا الحنيف شأن الزوجة، بل أولاها عناية بالغة،
بدعوته إلى اختيار المرأة الصالحة قبل الزواج بها، فقال النبي r:
"تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين
تربت يداك" [متفق عليه] وخاطب أولياء المرأة: "إذا أتاكم من ترضون دينه
وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" [أخرجه
الترمذي].
وحث ديننا على الإحسان إلى المرأة ومعاشرتها
بالمعروف، فقال سبحانه: )وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً(
[النساء:19]. وقال r: "لا يفرك ـ أي لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة
إن سخط منها خلقاً رضي منها آخـر" [أخرجه مسلم]،وهذا لتدوم العشرة وتستمر
الحياة الزوجية، وتتجاوز المشكلات التي تعصف بها.
أيها الإخوة الكرام: دعت شريعتنا السمحة إلى صلة ذوي الأرحام،
وبينت أن الصلة ليست بالمكافأة، وإنما بوصل الجميع حتى من قطع رحمه، وفي الحديث:
"ليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"[أخرجه
البخاري]، ورتبت من الفضل على صلة الأرحام الشيء الكثير، فجعلتها سبباً لسعة الرزق
وطول العمر، ففي الحديث: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره،
فليصل رحمه" [أخرجه البخاري].
ومن جمال الدين وكماله اهتمامه بالجار، فقد
حض على الإحسان إليه، وأمر بكف الأذى عنه،قال رسول الله r:
"مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" [متفق عليه].
عباد الله: لم تكتف الشريعة بما سبق من بيان
العلاقة بالآخرين وطريقة المعاملة، بل بينت الطريقة المثلى في اختيار الصديق
والصاحب، وحثت على حسم الاختيار، ففي الحديث: "المرء على دين خليله فلينظر
أحدكــم من يخالل" [أخرجه أبو داود]. وفي المقابل أوضحت السبيل في التعامل مع
المخالف مسلماً كان أو غيره، من ذمي أو معاهد أو مستأمن. كل ذلك جاء واضحاً جلياً،
فلله الحمد أن هدانا للإسلام وجعلنا من عباده المسلمين.
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله رب العالمين، أحمده على نعمه التي لا تزال تتوالى على العباد، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً خاتم النبيين وإمام المرسلين، صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما
بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأصلحوا ذات بينكم، واعلموا أن دين الإسلام
دين عظيم، يجب على المسلم أن يعتز بانتمائه إليه، حيث لم يغفل عن إحسان المعاملة
حتى مع البهائم والحيوانات، قال رسول الله r:
"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم
فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" [أخرجه مسلم].
وذكر النبي
r:
قصتين لامرأتين، للعظة والعبرة والعمل، إحداهما دخلت النار في هرة حبستها لا هي
أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" [متفق عليه] والأخرى" رجل
رأى كلباً يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه وجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر
الله له فأدخله الجنة" [أخرجه البخاري].
عباد الله: لم يقف الإسلام بجماله عند هذا
الحد، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فشرع للعباد سنن الفطرة، وحث على النظافة،
فأمر بالاغتسال يوم الجمعة، وأمر بتنظيف الأفنية والدور، ونهانا عن التشبه
باليهود. كل ذلك يدل دلالة واضحة على جمال هذا الدين، وحسن العلاقة والمعاملة
المقصودة بين المسلم وغيره. فما أجمل هذا الدين! وأكمله وأعظمه!.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ
فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته، وثلث بأمر المؤمنين به، فقال سبحانه: )إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً([الأحزاب:56]، وقال r:
"من صلى علي واحدة، صلى الله عليه بها عشرا"[أخرجه مسلم].
اللهم
صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد،
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد
مجيد، وارضَ اللهم عنِ الأربعةِ الخلفاءِ الأئمةِ الحنفاءِ: أبي بكر الصديقِ،
وعمرَ الفاروقَ، وذي النورين عثمـانَ، وأبي السبطينِ علي، وعن بقيةِ أصحابِ نبيِك
الطيبينَ وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وعن التابعينَ ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يومِ
الدين، وعنا معَهُم بمنِك وكرمِك يا ربَ العالمين.
اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ،
والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياء مِنهُم والأمواتِ، إنك يا ربَنا سميع قريب مجيب
الدعواتِ، اللهم احفظ سمو أميرَ البلادِ، وسمو ولي عهدِهِ الأمينِ، وألبسهما ثوبَ
الصحةِ والعافيةِ يا أرحمَ الراحمينَ، واجعل بلدَنا هذا آمناً مطمئناً سخاءً،
وسائرَ بلادِ المسلمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا
نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.